الهجران لـــ "ســـــــومـــر شـــحــــــــادة"

الكتابـــــــة تحت عـــــلامة الفـــــقد

توضع رواية "الهجران" وهي العمل الثاني للروائي السوري سومر شحادة تحت علامة الفقد. فقد تخلصت من العنف والمعارك الدائرة والحوارات التقريرية التي أرهقت كاهل -الرواية الأولى للكاتب-"حقول الذرة"  

ولسنا في موضع مقارنة هنا، لكن وبما أن لكل كاتب ميتافيزيقاه ومطلقه الذي يعتبر من شواغل حياته الكتابيّة والإبداعّية؛ سنبحث في فضاء النص عن الهاجس الذي تتحرك من خلاله الشخوص وتُحاك عبره الحكاية.

فالهجران" تبدأ زمنياً " 2017-2019 بعد خفوت صوت المعارك، وهذا لا يعني أن الحرب انتهت! وهي تدور حول علاقة حب (بين زياد الذي يعيش مع والدته الأرملة وجوري الشابّة التي تغرم برسام ستيني عائد للبلد للبحث عن مجد ضائع) تتفرع لاحقاً إلى حكايات فرعية. (عبد الله شقيق جوري الذي ينتحر بعد أن خذلته حبيبته إثر عودته من جبهات القتال. والد زياد الذي تخلى عن عزيزة ومات من أجل القضية.

وبما أن الرغبة بالشيء ليست هي الشيء نفسه.  والمعرفة ليست العارف. فإن

حب زياد لجوري، لا يتجاوز كونه تعويض عن فقدان الأم؟

وانجذاب جوري، المكلومة بموت شقيقها وقسوة أبيها وتفكك عائلتها للفنان الستيني؛ مجرد سلوك تعويضيّ لغياب الأب. وتعلق عبد الله برسائل حبيبته وهو على جبهات القتال هو محاولة للنجاة عبر هذه الرسائل التي تودي به إلى نهاية فاجعة!

فزياد الذي يعاني من التردد بسبب تعلقه بوالدته. يعاني خوفاً قهريّاً من المرأة، يظهر ذلك في تردده بمصارحة جوري، ومن خلال أحلامه التي تطفح بأجساد نساء تحاصره حتى يفقد القدرة على التنفس. أما جوري، فتدفعها قسوة والدها وانتحار أخيها إلى الدخول في علاقة جسديّة مع الفنان الستيني عادل الأشقر. بينما يعاني الأخير وهو -القادم لتبييض سيرته وآثاره على ذات الطريق الذي سلكه خارجاً من البلاد ذات يوم-من تاريخ مثقل بالدسائس والوشاية برفاق الأمس؛ والحب بالنسبة له إثبات لشبابه المفقود. ونهمه للمرأة إشباع للوحش العاجز في أعماقه؛ وهو مسطح حدّ أنه بدون داخل أو خارج وكل الهالة التي تحيط بلوحاته ليست سوى كذبة.

 أنزع اللوحة ولن تعثر على شيء تحتها!

 تقسم الرواية إلى مقاطع معنونه كالتالي (أوان الحزن-أوان الحب، انكسار القوس، أوان الحريّة) وهي وتبدأ من مشهد إعدام. فتهيمن الجثث على امتداد النص؛ وإن قراءةً متأنية لمشهد الجنس بين جوري والفنان العجوز يكشف عن جثّة الجنس فهو كفيلم صامت، لجسدين أحدهما هرم/ والآخر فتيّ. وبما أنه جنس نابع من الرغبة الراغبة في ذاتها فقط فهو يلقي بصورة البؤس الذي تتسم به الشخصيات.

يختار المؤلف سارداً سنطلق عليه تسمية السارد الطوباوي، فهو الأنسب لكي يختبر عبره أفكاره هو (أي المؤلف). وليمتحن وجودها بحيث تبدو الحكاية والشخصيات والحبكة والعلاقات مجرد ذريعة لهذا الهدف.        

فزياد يشرح لنا في المقطع المعنون بـــ " أوان الحزن" حكاية والده الذي مات من أجل قضيته، ويبدو الأمر وكأنه تخلى عنه وعن والدته عزيزة من أجل هذه القضية.

 

   وفي المقاطع التالية، ينتقل السرد إلى الراوي العليم. لكن هذا الراوي يتوحد مع زياد ما يشي بأن المؤلف متورط في النص، متوار بين شخوصه. ويمكن فهم ذلك باعتبار أن كتابة الحرب تأتي كرغبة في النجاة، والتخفف من الصدمة عبر الكلام. ومحاولة لاسترجاع القابلية للحياة من جديد.

 فالعلاقات الإنسانيّة توضع في "الهجران" تحت مبضع جراح؛ بعد أن كانت "حقول الذرة تختبر مفاهيم الوطن والبطولة والخيانة والشعارات وتنتهي بالعنف فالثائر اليساري ملهم (بطل حقول الذرة) يغتصب وبشكل هستيري حبيبته التي تجسد فكرة الحرية؛ وما الجنين المجهض إلا الحرية ذاتها. وهو شبيه بياسين جاره ورفيق طفولته. والذي أصبح فيما بعد متطرفاً إسلامياً. هكذا ينتهي اليسار مثلما انتهى اليمين قبله أعوراً يرى بعين واحدة.

 تنتهي" الهجران" بمحاولة للنجاة عبر الحب والفن. لكن ذلك غير ممكن بسبب ثقل الحرب التي تهيمن على فضاء النص. وهو يحاول أن يعطي فرصة للحب ويريد من شخوصه أكثر مما يمكن لهم ان يقدموه (البرهنة على أفكاره) التي تهدف لتصوير الإخفاق الشامل. والانهيار الكلي للأفكار والرعب الذي انتهت له الحرية. وتحاول أن ترى إلى أي مدى يمكن لنا أن ننجو عبر الفن، أو من خلال الحب.

لقد وصف أحدهم مرة السارد بالآلهة "التي تتسلى بتقليم أظافرها بينما ينمو النص بمفرده" ونعرف أن آلهة أثينا في اليونان القديمة كانت تغضب وتغار وتزج بنفسها في حياة الناس اليومية. وربما يقربنا هذا المثال من سارد "الهجران" إنه متورط في حياة شخوصه. ما يجعله مسرفاً في التحكم. يمكننا بالطبع فهم المغزى الأخلاقي لهذا. فهو هنا يتخذ وبطريقة لا واعية -أحد موقعين: من يريد حماية شخوصه أو تصفية حسابه معهم. كما يحدث في حديثه عن الفنان عادل الأشقر.

 

 وهو يمد مشاعره حيث يجب ألا تمتد. بل له تقييماته الأخلاقية للشخوص التي تركت دون دفاع. لقد تحدث عن الرسام الستيني بعبارات من قبيل "وقف الرجل الحاذق على الشرفة" وقدمه من خلال مشاعر السارد لا حرية الشخوص. فتقدم فضاء الأفكار على فضاء الحياة.

لكن هذا لا يمنع أن النص له من القدرة على المعاينة والتحليل حيث يرسم بدقة ملامح العلاقة الثلاثية المعقدة بين زياد ووالدته وجوري.  واستطاع أن يحدد بعمق أبعاد العقد النفسية في العلاقات الاجتماعية، والآثار غير المرئية للمرحلة المؤلمة التي عايشها السوريون، يمكن لقارئ الهجران ان يفهم معنى إخفاق الرغبة والحب

فأعراض الحب ليست هي الحب والرغبة (الراغبة في ذاتها) كما في حالة الفنان الستيني هي إخفاق كلي للانفتاح على الآخر؛ قِس ذلك على كل أنواع الرغبة.  وهذا ربما يفسر، أسباب أخفاق التواصل الإنساني في رواية الهجران فالحرب تدفع الإنسان للعيش خارج ذاته، على حدودها السطحية وفي حدودها الدنيا.

وثمة مسافة بين ما نتوق إليه وما نحققه. بين ما نرغب في قوله وما تستطيع اللغة منحنا أياه؛ ويمكن لقارئ الهجران أن يستشعر هذا الرعب الذي يحيط بفضاء الشخصيات فهي تتراجع إلى خلفية اللوحة مفسحة المجال للأفكار؛ ويمكن بتطبيق نظرية الصدمة على اللغة أن نرى تأثيرات الحروب والأحداث الفاجعة والمؤلمة في نمو لغة جديدة، للفن عموماً والكتابة خصوصاً.

 فالقتل والموت المجانيً، يشكل صدمة للكائن الذي يشعر بقصور لغته عن وصف آثاره. والرض العنيف في الوجود، يستتبع شرخاً في الأفكار، والشرخ في الأفكار يتلوه رض عنيف في شكل الوجود وتتبعه ضرورة رجّة في اللغة.  وستحتاج الأخيرة إلى وقت طويل حتى تستوعب وتطور نمط علامات ورموز تعبر عن التناقضات وتتمثلها.

إن التحولات الكبرى، كالحروب والأزمات، تؤدي إلى تمزق في نمط عيش الكائن الإنساني، وهذا يستتبع تمزقاً في الوعي. ذلك كله يستدعي استجابة جديدة من اللغة فالوجودية، وفلسفة العبث. والعبارات المبتورة واللغة الشذرية ولغة الجنون؛ كلها نبتت بأثرٍ رجعي من معاينة الموت عن كثب. موت الناس، موت الأفكار، موت القيم.  ولا شك أن اللغة تتنفس وتنمو، وهي كالكائن الحي تتعرض للرضوض. ويبدأ العجز حين يشعر الإنسان بأن اللغة عاجزة عن مواكبة حزنه، فيصمت تحت سماء فاجعة كبرى، أو ترجح كفة الجنون؛ فحين يصبح كل شيء مصدر تهديد، لا بدّ من إعادة وضع اللغة السابقة تحت سماء الشك.  

كتب أميل زولاّ " في معرض وصفه لبلزاك أنّه " ينهال بضربات متلاحقة على جملته" وإن لغة مألوفة، ستعجز عن احتواء اللامألوف واللامنطقي والعبثي.

 وربما تحاول الرواية السورية الجديدة، الخروج من أسر الوصفية والتقريرية إلى فضاء لغة تقدر على استيعاب هذه التراجيديا الإنسانية. فإمكانات اللغة لامتناهية وهي لا تسلم نفسها بسهولة.

إذن: تحاول الهجران أن تقدم لقارئها شخوصاً هزمتها الحرب، في انحياز واضح للأفكار على الإنسان. وهي تنتهي بترك الباب موارباً للحب؛ لكن الحب معرض للإخفاق؛ فالشخصيات وضمن معطياتها لا قدرة لها عليه فهو ثقافة متكاملة؛ تشكل الحرية واسطة العقد فيها. إن النوايا النبيلة للكتابة التي تريد أن تنتصر للحب مقابل الموت؛ لا تكفي هنا فالشخصيات فقدت قابلية الحياة بأثر رجعي من الحرب والأنانية. وهي مجرد جثث تحاول أن تلوح بيديها لتبرهن على نجاتها، لكنها مقيدة بأفكار مسبقة، مقيدة بتاريخها، بشكوكها وبعزلتها.

نحن لا نرى السلاسل الحديدية في أقدامها لكن باستطاعتنا سماع صوتها.

فدوى العبود/كاتبة سورية

مقال منشور في القدس العربي 11-8-2021

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة