رواية ألعاب العمر المتقدم
لا تتنازل عن أغنيتك
"عندما نحلم في وحدتنا طويلاً، نَبعدُ عن الحاضر، نعيش من جديد زمن الحياة الأولى، تأتي للقائنا وجوه أطفال عديدة، لقد كنا عديدين في الحياة التي حاولنا عيشها. سنة بعد سنة نصبح شبيهين لذاتنا، نجمع كل كائناتنا حول وحدة اسمنا" (غاستون باشلار)
00000000000000   
في سيرته كمحتال ينتحل "غريغوريو أولياس" أسماء كثيرة. (فاروني، لينو، أورينيولا) وتدور كلها حول  الاسم الحقيقيّ الذي ينأى عنه كلمّا أوغلَ في ابتكاراته، لكنه لم يكن محتالاً بل –وإذا جاز لنا التعبير فلسفياً- كان نموذجاً حقيقياً عن الروح المؤنّثة أو "الأنيموس" بحسبِ باشلار . أو "مجرد حالم يقظة" فمن  مقر عمله في قبو لشركة تصدير الأنبذة والزيتون، بنى عالماً كاملاً، عوّض فيه إخفاقاته ونكباته. إنّه شاعر ويدعى فاروني، وهو المهندس الذي زار الغابات الاستوائيّة، والمناطق القطبيّة الشماليّة والأنهار الكبرى بمنطقة الأمازون، دار مرتين حول العالم، واكتشف  في المرة الثانية جزيرة صخريّة أسماها (صخرة الوداع) و قتل تماسيح بمسدس.  لقد جنحت سفينة طفولته نحو شطآن غريبة عمّا تمنّاه ، وعلقت في رمل اليوميّ، وتكسرت مجاديفها، فحاول إغراق الحقيقيّ لإنقاذ الحالم. "لكن كان الوقت قد فات".  إنّ مراقبة العلاقة بين الطفل والأشياء تتضمن مؤشراتٍ ذات دلالة: أنّ الطفولة تعرف كيف تتخلص من ثقل العالم بطريقة سحريّة، تتبدل فيها العلاقة من أسيرٍ له إلى مبدع . فنحن ننزلق من الرحم متصلين بخيط خفيّ هو  " الروح الحالم فينا" و الذي يتولى صبغ الأشياء برؤىً خلاقة تؤثر في مستقبل الإنسان. لكن ما لا تقطعه القابلة يقطعه المجتمع، الذي يخشى شطط المخيّلة باعتبارها لعنة تصيب تسلسل الحياة بالذعر وتربك اتساقها الاعتياديّ؛ ومطلوب منّا التأقلم مع الواقع، و أن نتحضر لأدوارٍ اجتماعية رُسِمت لنا؛ ولأن لا شيء دون ثمن، فالثمن الذي ندفعه حين نترك للواقع أن يتكفل بالقضاء على ذاتنا الحقيقية  هو "التعاسة"  و هي ضريبة ندفعها جرّاء قتل الكائن الحالم في أعماقنا؟
في  رواية العاب العمر المتقدم، للويس لانديرو  نلتقي حرفيا بعذوبة "أحلام اليقظة" والثمن الذي يُسدّد دفعة واحدة عما تخلينا عنه بالتقسيط!  إنّ الوزن الأنطولوجي للأنا المتخيّلة مرفوض من المجتمع لذا سوف تقاوم هذه الأنا كي تستمر فينا، ولكن قليلاً ما يتم الحفاظ عليها؛ ولعل هذا  هو الخط الفاصل بين سعادة لُقَياها وشقاء تَضييعها.  يكتب أحدهم "هذا العالم متاهة ويحدث أن يضل أحدهم الطريق".   يُحذرنا الأدب من خسارة هذه الأنا، ، فلكل لكل إنسان كلمة سر لإيقاظها. كلمة السِّر قد تكون نظرة، رائحة شعر، لمسة، وهي عند أولياس أغنية لاهافانيرا التي تُعيد الشاعر المنسيّ  من تحت رماد الأيام،  وتحرره من ثقل أولياس  الحقيقي الذي لم يكن سوى " رجل سمين نوعاً ما بغلالة شعر ذاوٍ على شيء من البياض، الكتفان متهدلان. والشحوم الراكدة، وتلاشي دقة الوركين ،وبداية اللغد تمنحه مظهر ضبٍّ أعزل".  أما فاروني  المتخيّل على العكس تماما إنّه شاعرُ مكرّم، متوّجٌ بالغار. وفي قصر كقصور الحكايات وأمام حشودٍ  غفيرة  يتّوج  الشاعر الغنائي العظيم "فاروني"
في هذه المعركة و في عملية إحلال غريبة، ينهزم الواقع ويتخلى عن مواقعه الأشد قوة للأحلام؛ التي تدمر  واقع غريغورعوضاً عن  بناءه. و تقضم دون رحمة الأنا الحالم الذي نخرط بها بكل سلبية وتجرفه بعيداً فيصبح كالمنفيّ .لا يتوقف غريغوريو عن إغماض العين كي يعود إلى مساحات الطفولة، قبل أن تسلبنا العادات الاجتماعية ذاتنا وتخضعنا للتفاصيل الخرقاء و تجعلنا آليين.  إنّ الأحلام الشاردة تعويذة خلاص وهي  تضفي على الأشياء وجوداً جديداً بعد أن كانت غارقة في عتمة الاعتيادي، فتصبح شجرة الزيتون "روح الحقل، وسياج البيت، وهي اللون الذهبي للزيت تحت بريق الشمس". إن الانسجام بين الطفل في داخلنا والعالم يأخذ بالتفكك حين  نُحرم أحلام يقظتنا. أن تتخلى عن أغنيتك يعني ببساطة أن تكف عن استخدام جناحيك المنبثقين من اتحاد "المخيلة والذاكرة" صحيح أنهما هشّان لكنهما قويان.
في مرحلة ما وحين يستسلم غريغوريو لبؤس الواقع، ويفضل الميزات التي يمنحها الأمان على قلق الحب يفكر "أنه إذا كان قد نسي "لاهافانيرا "وأشياء كثيرة أخرى؛ فإنما لأنّه لم يعد بحاجة لأغنية من أجل تفادي تهديدات العالم؛  وهنا ينخرط في تخيل هروبيّ انسحابي.  في النهاية هذا النص ينطبق عليه قول باشلار:  "قد لا يرى الواقعي، الذي ينظر إلى الشغف بواقعية، إلاّ جملاً متلاشية" أو كلمات لا يمكنه التعرف بها إلى نفسه، لكن الاستسلام للواقع والتخلي عن أحلامنا، هو انتصار (النغل على الحقيقيّ فينا).  تودع الجدات أحلام طفولتهن بالشجن، وهو بحسب تعريف لانديرو: " تنهيدة خاصة بالأشخاص الذين أضاعوا أغنياتهم تحت رماد الزمن"
 وهي من مقطع واحد: أيييييييييييييييه....
هذه التنهيدة الطويلة هي التّأسّي على زمن أضاعوه، على ماضٍ خنقت بذرة المستقبل في باطنه نتيجة سهو أو تخليّ أو استسلام للصعوبات. لذا يخلق لنا الأدب أبطالاً باتجاهين فهم إما يقارعون أشد الظروف وهم يتمسكون بأحلامهم وسط مُلوحة الأيام، أو أشخاصاً تنازلوا عنها مقابل لا شيء.. في العاب العمر المتقدم يقول دون أساياس لغريغوريو أولياس " لقد تخليت عن ذاتي مقابل حفنةٍ من العدس"  يعيننا الأدب على فهم التجربة الإنسانية والتعلّم منها، وتعيد الفلسفة صياغة سؤال سقراط القديم، "أيها الانسان اعرف نفسك بنفسك لا بغيرك" سؤال الأنا يتجدد منذ ديكارت مروراً بكانط و حتى سارتر. وهو صياغة للسؤال السقراطي بطريقة جديدة. لا تتخلى عن أغنيتك.. عن حلمك الشارد الذي انبثق في الطفولة ورافقك مثل تعويذة. في المقابر لا تدفن الجثث  فقط بل  تدفن الأحلام التي قد تنهض من جديد في هيئة أشباح، (عزلة، غربة، واكتئاب، شجن، تعاسة) إنها تسترد حقها مضاعفاً..." يكتب آلان بوسكو: "سوف أقول ماذا كانت طفولتي، كنا نخرج القمر الأحمر من مخبئه في أعماق الغابات".
 إنّ السؤال الذي تضعنا الأعمال الكبرى في مواجهته- يهدف لإنقاذ الأنا الغارق تحت صرامة اليوميّ حيث العادة مقصلة الدهشة!  يحذرنا باشلار: "أيها الحالمون الكبار لا تتخلوا عن أحلام يقظة الطفولة"
*****  
رواية ألعــاب العمر المتقدم
لا تتنازل عن أغنيتك
فدوى العبود/سوريا
مجلة الشارقة الثقافية
العدد43
13/5/ 2020


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة