أحمليني أيتها الطرقات
طويلاً بنيتك ايها البيت!
يابيت الريح، المأوى الذي أزالته نفخة*
لا أستطيع أن أرثي نفسي فكيف أرثي بيتاً تهدم!
ماتزال صورة أم سامر جارتُنا الطيبة التي كانت تساعد أمي في تقشير الذرة- تسبقها خشخشة المفاتيح- ماثلة في ذهني؛ ثمة واحد مختلف بينها. سألت والدتي عنه فقالت "إنه يخص بيتها في فلسطين".
-ولماذا يحمل الناس مفاتيح بيوت غادروها؟ " سألت أمي"
-لأنهم سيرجعون إليها مرة أخرى. ردت وتابعت تقشير الذرة.
اليوم وبعد منتصف الليل، وأمام باب الشقة التي استأجرتها اكتشفت أني ضيعت المفتاح في ليلة تفاقم بردها. جلست على الدرج انتظر الصباح، محاولةً أن أسليَّ نفسي بأغنية يكون لها أثر النبيذ في عروقي، أغنية من تلك التي تترنم بها جدتي يوم كانت تحرس بيتنا من القطط التائهة، والعشاق المولعين بسرقة زهورها.  لوعرفت أنها ستلزمني الآن ما سددت أذنيّ بالقطن وكنت رجوتها أن تغني المزيد!
 حاولت ولم أعثر سوى على جمل مبتورة، عن رثاء لطرقات تحمل أهلها.
 عن شجرة توت بريّ تلوي عنقها حين تلمح عاشِقَين؛ وعن نبتة العليق التي تخبئ أشواكها حين نمرُّ بمحاذاتها. عن الياسمينة التي تغطينا حين يقترب عذول.
يا للنكران! هل استطاعت هذه المدينة الغريبة، محو صورة العليّة "مسرحي الاول" من ذهني. المكان الذي عثرت فيه على دهشتي الأولى وأخفيتها تحت كيس من الخيش، وفي محاكاة ساخرة كانت ثروتي أشبه بثروة دون كيخوت الذي لم أكن قد قرأته؛ (قبعة من الورق المقوى، كتاب مهترئ عثرت عليه في "الحاكورة" و أحمر شفاه فوقه آثار قبلات وطعم دموع مالحة، سيف بلاستيكي سرقته من ابن الجيران) هناك ألّفت أهم مسرحياتي وتفوقت على بيكيت ويونسكو. كنت البطل والمخرج، أما جمهوري فقد كان قطة وأولادها الصغار.
 في حرب لبنان 1982، وبينما كانت أمي تعد مع الجارات عشاء "النازحين" الذين تسميّهم الضيوف، كنت أشعر بتفاهة ما تفعله أمام مهمتي الكبيرة، " تحرير العالم دون إراقة نقطة دماء". لم يكن حصاني الهزيل " روثينانتا" سوى كيس قمح، سحري ينقلب بقدرة قادر إلى مسرح مرة، وفراش حب مرة أخرى. وبساط ريح في ثالثة؛ قبل أن أعرف السمعة السيئة والقاسية لهذه الكلمة..
الكتاب المهترئ الذي عثرت عليه، كان عبارة عن مسرحية تتألف من حوالي 100 صفحة، شغفت بالحوارات بين الروح الهائمة والشاب التعس. رددتها دون فهم؛ ولم أعرف يومها أن أبي الذي يبني سقف البيت –سيتحول إلى روح هائمة بين بساتين اللوز. كنت أنهل من ينابيع اللذّة الاولى حين تنادي جدتي: اين أنت ياشيطانة؟
-أنا مع الملك
-أي ملك؟
-الملك الذي قتل أبي.
-من؟
"أنا هاملت"
تباغتني العتمة، أنهي مسرحيتي، أحييّ القطة وصغارها بانحناءة لطيفة، وأقفل المسرح. أحوم حول جدتي وحين تضيء أمي ذبالة المصباح في الداخل يصير للبيت فم وعينين وأذنين "يصير البيت إنساناً"
أمام البيت يتابع والدي الحفر ليغرس شجراته الثلاث. قال لنا: سوف أزرع شجرة ليمون هنا، وشجرة برتقال هناك ... وفي القلب " شجرة كينا"...وحدها شجرة الكينا المرّة كبرت وصارت حارسة للخراب.
كلنا نظرنا للخلف، كلنا أدرنا رؤوسنا لنلقي نظرة أخيرة... أبي وحده لم يلتفت . مشى بتأنٍ وكأنّ الوقت ملكه. لكن أنى له أن يعرف أن الريح ستبدل وجهتها؟ وكيف سيخطر بباله أنها ستكسر أجنحته؟
عندما غادرنا، سمعت أمي تقول وهي ترنو للنافذة " استودعتك الله". رد والدي: تعرف البيوت جيداً كيف تعتني بنفسها... وصدقناه.
ازدادت برودة الجو وقاربت الساعة على الثالثة بعد منتصف الليل.
 اسعفتني الذاكرة بمقطع شعر لريلكه.
البيت، قطعة المرج، ياضوء المساء
فجأة تكتسب وجهاً يكاد يكون إنسانياً
أنت قريب منا للغاية، تعانقنا ونعانقك
جاء صوت أبي: لا تستعيري قصائد الغرباء "ثوب العيرة مابيدفي"
لقد  نسيت المواويل يا والدي فلا ذبالة فانوس تتلألأ في العتمة، ولا عليّة تنتظرني، ولا  قطة  تلقم صغارها أثداءها الوافرة.
قررت أن اقصد فندقاً انام فيه، تفقدت  نقودي تحت الضوء البخيل، لو فهمت مواويل جدتي، لو تركني والدي أحمل المفتاح معي، أبي الذي غافلنا وعاد للبيت.
  قال أخي: عثروا عليه تحت الأنقاض.
الآن فهمت لماذا ترك المفتاح بالباب؟  كإشارة سرية بينهما، رسالة لم يفهمها سواهما" هو والبيت".
 مشيت نحو شارع لا يعرف حزني ولا يفهمه، على حائط بارد قرأت عبارة كتبت بلون فوسفوري: " احمليني أيتها الطرقات"*
تابعت السير، حتى وصلت إلى سكة قطار، تلمست الحديد البارد وجلست. يبدو أني سأموت بدون أمل، حتى لو امتد بي العمر وأنجبت أحفاداً لا يفهمون لغتي؛ سينظرون لي كتحفة أثرية، يلتقطون الصور، سوف يحدثون أصدقائهم عن جدتهم السوريّة، المصابة بالزهايمر، المولعة بسرقة المفاتيح، والتي تنكر أنها أخذتها، سيضحكون من هذه الطفلة التي تضيع إن تركوها بمفردها..
 سيشم أحفادي من كلماتي رائحة الحزن والقمح والقرفة المطحونة، وحين يحين وقتي ستنكرني طرقات البلاد الغريبة. الطرقات التي لم تحتمل ثقل قلبي. عندها سيمد الطريق، طريق المدرسة القديم، المسيج  بالتوت والياسمين،  ذراعيه كي يتلقفني.  وبدافع الحب أو الشفقة وقبل أن أسجى في لحدي سيعثر أعز أحفادي" على ملمس أصغر ترباس محفوراً فوق يديّ"*
*لوي جوليم "بيت الريح"
 مارسلين فالمور
* غاستون باشلار
فدوى العبود 
منشور في موقع جبرون.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة