الشفرة
الآن في يدي..
يسعدني أن أخبرك، أني الآن أفضل. لقد
صرت أكثر خفّة، أو لنقُل "سِّيدة الخفّة".
حدث ذلك يوم افترقنا، سرت بظهر
مستقيم على غير عادتي، لم أعرف السبب ولم أكن لأعرفه؛ لولا أنيّ سمعت سقوطاً مدويا
أشبه بارتطام نيزك بكوكب الارض! تخيل ذاك النيزك المتفحم كان قلبي. في البداية
شعرت ببرد شديد، غرست أصبعي وعثرت على ثقب صغير
مكانه. لا أخفيك أحيانا تدخل منه ريح باردة، لكنّي فعلت ما كانت تفعله أمي
حين يكسر أولاد الجيران نافذتها، سددته بالخرق وبعض الأوراق التي مزقتها
من كتب قرأتها.
أعذرني
فقد كنت في أيامي الأخيرة ثقيلة كجيوب فرجيينا وولف الملآى بالحجارة، ولكني لا
أملك شجاعتها لأُغرِق نفسي.
كان عليك أن تجرح راحة كفيّ كي أفهم ماهيتك....
كيف حال عينيك؟ أما زلت تعاني من صعوبة الرؤية.
أم أنك تستطيع أن ترى جيداً الآن.
العمى طبيعة أولى لك. والظلم طبيعة
ثانية...
هل كان
عليك أن تظهر كل تلك القسوة لتجعلني أفهم!
بما أنك لا تحبُ الإسهاب. يمكنني تشبيه ما حدث
بيننا. بعبارة قرأتها مرة على جدار
لقد هدمتني كسياج ثم أعدت بنائي مثل قلعة*
لقد قرأت الكثير من
الكتب كي أتحرر منك. ليس هذا خارقاً، بل يبدو أخرقاً. لكني
نجوت بالمعرفة. وأنا
مدينة للحكايات التي انقذتني من سطوتك، تعرف كم أنا
مولعة بالتشبيهات؛ لذا سأروي لك قصة بياض الثلج. التي تناولت تفاحة مسمومة.
لقد آلمني موتها بينما سخر أخوتي الصغار من
دموعي . ظلت بياض الثلج ميتة حتى أتى الأمير وقبّلها، عندها سعلت فخرجت القطعة
المسمومة وتدحرجت فوق العشب. لقد شعرتُ بالامتنان للأمير، وكأنه أنقذني أنا. حملت أصغر إخوتي وصرت أدور في الغرفة.
إذا قرّبت
لك الامر، فأنت أشبه بالأمير وأنا بياض الثلج والتفاحة المسمومة هي أوهامي
التي كان عليك أن تخلصني منها. عرفت لاحقاً أنك تسقي حديقتك بالدموع والدماء.
لا أزال أتذكر ذلك اليوم الصيفي،
يوم افترقنا... أعذرني لأني كنت حمقاء، فقد كنت أطفو فوق الغيمة التاسعة، بينما
كنتَ ملتصقاً بالأرض. وماذنبك إذا كان فهمي بطيئاً؟ أعلم أنك تقدم نفسك عبر أكثر الكلمات وضوحاً، لكن طرقك
غامضة ومحيّرة .الشيء الوحيد الثابت فيك حضورك وغيابك.
هل تعلم أننا صرنا في العام 2019
وأننا نحتفل هذه الأيام بعيد الحب. القلوب معلقة على أبواب المحال كالبالونات.
يتسلى بعض الصبية الهاربين من الصفوف بثقبها وفرقعتها، أو يشدُّون خيوطها فتطير
وأتابع أنا من نافذتي طيرانها البهي. خلف الواجهات الزجاجية توجد دببة من كل الأحجام
والألوان لكن لماذا الدب! اسأل نفسي و لا أجد أيّ جواب.
غوغل يكتب: الدب حيوان مفترس، يحبُ أن يمَّد يده
إلى أعشاش النحل طمعاً بالعسل؛ ولأنه أخرق لا يحصل إلا على اللسعات.
نسيت أن أخبرك عن يوم رحيلك. لقد زحفت على بطني مثل حلزون بليد، وتركت خلفي
خط حزني الشفاف, لكنيّ لم أفقد الأمل في أن نلتقي مرة أخرى. أو أن أعود مثل قطّة إلى
عتبةِ بابكْ. لذا أخرجت من جيبي قطعة خبز. ورحت أنثرها كعلامة.. كنت متيقنة أني
سأعود يوماً عبر ذات الدرب، و حين التَفَت كانت عصافير الوقت قد التهمت كل شيء.
حسناً، أخبرتك أني قد أموت بدونك،
لكن ذلك لم يحدث. فأنا لم أرم بنفسي تحت عجلات القطار؛ كما حدث لآنا كارنينا
- لا بد أنك تعرفها، المرأة ذات المشاعر الجامحة- ولم أتناول الزرنيخ كالسيدة
بوفاري.
شربت الكثير من النبيذ. ممزوجاً بالقليل
من الأسى والكثير من المرح . صحيح أنيّ بكيت في الحافلة لكن الرجل الجالس بجانبي حول
حزني إلى غيظ وهو يدّعي مواساتي. أخبرني أنه التقاك شخصياً. لم يتوقف الرجل عن
الثرثرة طيلة نصف ساعة، أغراني تطّفله والمذاق الرديء للقهوة بسكبها عليه.. وفعلت.
لكن ياللعار صرخ الرجل حين نزلت: أنا فولتير.
إذا احتجتِ إلى خدمة تفضلي. إلى مكتب (السيد فولتير لبيع العقارات وخدمات أخرى)
دعني أحدثك عن الأشياء الكثيرة
التي حدثت في غيابك. أولا قامت حرب غريبة، يصير فيها القتلة من المشاهير، في الحرب
لا يمكنك أن تتلفظ بكلمة، الافعال لا تدينك. فقط الكلمات. كيف أشرح لك. يعني يمكنك
تصوير نفسك وأنت تقتل ضحيتك. لكن إذا لفظت كلمة أنا قاتل فقد أدنت نفسك. إذا قلت
أنا لست قاتلاً يمكن حلُّ الأمر. وكل شيء يمكن التفاوض عليه. لدينا كاميرات سحرية
ياحبّة قلبي، يمكن للموتى أن يستيقظوا كي يرووا لنا شهاداتهم ثم يموتون من جديد. ومن
أصدق من الموتى .....
الذين هاجروا عبر البحر تحولوا إلى أسماكٍ ملوّنة.
الكثير من أصدقائي يرسلون لي بين حين وآخر صورهم، وهم يسبحون برفقة أسماك؛ بعضهم
صار له ذيل سمكة.
بالنسبة لآنا كارنينا. مات زوجها
في الحرب، والرجل الذي أحبته هاجر إلى ألمانيا بعد أن سرق مصاغها. تعرف كم هي صعبة
الحرب. ..لقد غرقت ابنتها في البحر.
أحضرُ معارض كتب بين وقت وآخر،
التقيت بامرأة تعد القهوة لشاعرات صغيرات ومترفات. إنهن جميلات إلى حد أن يغمي على
الجمهور أو يقطع يديه دون أن يشعر!
حين مرّت بجانبي عاملة التنظيف
شممت رائحة احتراق، نبهتها بذعر فابتسمت وهمست: هذه رائحتي، أنا سيلفيا بلاث.
نسيت أن أخبرك هل تتذكر الرجل الذي
التقيناه مرةً في السوق التجاري، الرجل الذي أعجبتك أناقته وحركاته المختالة. إنه فرتر.
بالأمس التقينا صدفة، ودعاني لاحتساء فنجان قهوة؛ ويبدو أنه شعر بالألفة معي فقد
تحدث بحميمة لا تتناسب و لقاء عابر. أخبرني أنّه لم ينتحر كما أعتقد الجميع، وهو
الآن سفير ناجح ولديه الكثير من العشيقات إحداهن مصنوعة من السيليكون. ودعاني
للانضمام إلى طابورهن لكنيّ اعتذرت بلباقة كي أحافظ على صورة " فرتر
وآلامه" نقية في روحي.
إنها تمطر الآن، أرجوك لا تفكر
بالمجيء. لا أعتقد أن رفقتك ستكون ممتعة. اشتريت مظلة، فلم أعد أحتاج للمطر كي
يخفي دموعي. أنا أعمل جيداً وعندي رفقة مبهجة، اليوم لدي موعد مع أصدقائي في مكان هادئ، حيث تعمل راقصة "ستربتيز"
جميلة ورقيقة بالأمس تأملتني بعينيها الغامقتين كالشوكولا، اقتربت مني وأشارت
بأظافرها الطويلة المصبوغة نحو شاب يقف على بعد عدة أمتار قائلة: ذاك الأبله روميو
ولقبه طوني أنا جولييت. يمكنك مناداتي سوزي، أقدم كافة الخدمات للرجال والنساء على
السواء. مئة دولار لكل ساعة.
أرجوك لا تعتقد أني أخلاقيّة كفاية. لكنيّ تحررت
منك.
الشفرةُ الآن في يدي، إنْ ضغطتُ عليها جرحتني،
وإنْ رميتُها جرَحتْ أحدهم.
أيها الحبْ انتهت الرسائلُ بيننا.
فدوى العبود
منشور في عدة مواقع عربية
* مقطع من قصيدة للشاعر عبد العظيم
فنجان.
تعليقات
إرسال تعليق